سورية روح القمح.. وشعبها زارع الحبة الأولى

 

دمشق-سانا

للقمح رمزية مقدسة لما يحمله من أمن غذائي واستقرار اقتصادي وعادات اجتماعية محببة وطقوس دينية فريدة وأساطير خالدة والسوريون تعاملوا مع حبة القمح بطريقتهم الخاصة بحسب مناطقهم وبيئاتهم المحلية وثقافاتهم الشعبية لتتحول إلى رمز للعطاء الفكري والمادي اللامحدود فكانت حبة القمح السوري بروحها الجامعة رمزاً من رموز جناح سورية في إكسبو دبي 2020.

بداية الحكاية

الحكاية بدأت عندما اكتشف الإنسان في سورية القمح البري وبدأ الاستقرار النسبي قرب حقوله يتغذى ببعضها ويخزن بعضها الآخر حيث يذكر كتاب (لغز عشتار) للمفكر السوري الكبير فراس السواح أن دورة الطبيعة صار لها أهمية أكبر بالنسبة لحياة الإنسان بعد اكتشافه للقمح فدخل الخبز في نظامه الغذائي وغير من عاداته الاجتماعية.

ويؤكد الكتاب أن حياة الإنسان السوري ونظمه الاقتصادية تمركزت حول تتابع الفصول والدورة الزراعية السنوية وعند أعتاب هذه المرحلة تجمعت الأفكار الأسطورية عن غياب الأم الكبرى سيدة الطبيعة (عشتار) في الخريف وعودتها مع خضرة الربيع على صورة أسطورة متماسكة تركزت حولها الحياة الدينية للجماعة كما تركزت حياتها الاجتماعية حول إنتاج الخبز.

ولذلك تعامل السوري مع الخبز بطريقته الخاصة فالكبير والصغير يسارع لالتقاطه عن الأرض ومبعدين إياه عن الطريق ومنهم من يقبله ويضعه على رأسه فهناك إحساس جامع لدى كل سوري أن الخبز شيء مقدس ويعامله بطريقة تليق بهذه القدسية.

السوري زارع حبة القمح الأولى

وبالعودة إلى الوثائق نجد أنه في الألف الثامن قبل الميلاد تم اكتشاف الزراعة ووجدت البعثات الأثرية أن الزراعة ظهرت لأول مرة بالسهول والوديان الداخلية التي ترويها الأمطار في سورية الداخلية وهو ما ذكره كتاب (صعود الحضارة من المزارعين الأوائل إلى المجتمع الحضري في الشرق الأدنى القديم) للمؤلف تشارلز لـ ريدمان.

وفي عام 1965 قامت بعثة أثرية فرنسية ضمت نخبة من علماء الآثار بحفريات إسعافية بموقع (تل المريبط) غرب الرقة بنحو 100 كم والذي كان مهدداً بالغمر بمياه سد الفرات واكتشفت آلاف اللقى الأثرية المهمة تحدثت عن بداية الاستيطان البشري وظهور الزراعة بهذه المنطقة ومنها انطلقت إلى جميع الاتجاهات فكانت تلك المرحلة حاسمة بتاريخ الإنسانية.

أوغاريت ميناء الغذاء لشعوب العالم

من بين مدن سورية القديمة لعبت أوغاريت دوراً بالغ الأثر في زراعة القمح وتخزينه وتوزيعها على المنطقة كما أكدت ذلك الوثائق الكتابية المترجمة وعن ذلك قال الباحث السوري المتخصص بالحضارة الأوغاريتية الدكتور غسان القيم في حديث لـ سانا “لفت انتباهي في هذه الوثائق الدور الكبير الذي لعبته هذه المدينة بتزويد بلاد الأناضول بالمواد الغذائية خاصة (القمح والشعير) لاسيما في الحقب التي شهدت تردياً في الأوضاع الدولية جراء الحروب والغزوات”.

وفي رسالة بعث بها الملك الحثي إلى ملك أوغاريت وفقاً للقيم طلب فيها الانتباه إلى قافلة حبوب مرسلة من بلاد (موكيش) الواقعة شمال غرب سورية إلى (خاتي) في كيليكية لأن الموضوع حياة أو موت وفقاً لتعبيره.

كما كانت أوغاريت مركزاً كبيراً لشحن مواد غذائية وهذا ما أكده نص مرسل إلى ملك أوغاريت من أحد وجهاء الدولة الحثية وظلت عبر تاريخها المديد دولة منفتحة تقدم العون والمساعدة إلى كل جيرانها والدول التي كانت تقيم معها علاقات سياسية وتجارية.

الثورة المعلوماتية الأولى التي عرفتها أوغاريت كما يؤكد القيم تظهر أنها لم تكن سابقة في اختراع الأبجدية بل أيضاً كانت مصدرة للثروة الزراعية الأولى من خلال ما اكتشف من تنقيبات أثرية وأسبار طبقية تحت المدينة حيث ظهرت مجموعة حبوب في الطبقة السفلى ويقدر عمرها الزمني بمنتصف القرن الثامن قبل الميلاد.

واكتشفت البعثات الأثرية المنقبة في المدينة الأثرية مجموعة من الحبوب (القمح والعدس والحمص والفول والشعير) ما يدل على أن إنسان أوغاريت من خلال سكنه الأول امتلك مقومات الحضارة وتحول من مستغل سلبي للطبيعة إلى منتج إيجابي فجنى النبات وهجن الحيوان وبنى المساكن المستطيلة والطويلة وكان له مخزون غذائي واكتفاء ذاتي من الغذاء والحيوان والنبات.

بين الأمس واليوم

في السياق ذاته تذكر الدراسات التاريخية أن الإمبراطورية الرومانية كانت تتزود بما تغله سهول بلاد الشام الخصبة والتي كانت تعرف بسهول حوران من القمح والمنتجات الزراعية حتى وصفت بأنها (أهراء روما) أي (مستودعات الغذاء) بسبب اعتمادها على منتجاتها الزراعية وخاصة القمح وحرصاً منهم على استغلال الأراضي أولى الرومان اهتمامهم بتطوير أنظمة الري فحفروا القنوات والآبار تحت إشراف مهندسين مختصين.

وفي مقارنة بين الماضي والحاضر وتحديداً خلال الحرب الإرهابية الظالمة التي طالت الشعب السوري ومصدر رزقه في السنوات العشر الماضية لم يكن استهداف القمح السوري الذي يهدد الأمن الغذائي الوطني محض مصادفة بل جاء ممنهجاً حيث ذكر تقرير لمنظمة الفاو في سورية أن إنتاج القمح في سورية قبل عام 2011 وصل إلى ما يقارب 4 ملايين طن وكانت تصدر الفائض منه لدول الجوار وأوروبا لجودته ونوعيته المميزة.

تدني إنتاج القمح خلال سنوات الحرب يعود إلى أسباب عديدة منها الجفاف حيث لعب النظام التركي دوراً كبيراً فيه وتحديداً بمنطقة الجزيرة من خلال قطع المياه عنها ما يعد بحسب القوانين الدولية جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية والحرائق التي ترتكبها التنظيمات الإرهابية عند كل موسم حصاد للقمح وسرقته من قبل الاحتلال الأميركي والمتآمرين معه ليكون خبز الشعب السوري مصدر ضغط على الحكومة السورية ما شكل مرحلة جديدة في الحرب الاقتصادية على هذا الشعب المسالم.

القمح السوري روح الأرض السورية

ورغم كل ما تعرض له هذا المحصول الاستراتيجي المهم إلا أن نظرة الإنسان السوري للقمح هي ذاتها مذ كان يزرع سنبلته الأولى إلى يومنا لأنه آمن بها وأحبها وتغذى على بذرتها محافظاً على طقوسه بالقمح عنده روح تموت كل عام لتهب لنا الحياة.

العادات المجتمعية وحبة القمح

حافظ السوري على شكل علاقته بالقمح بين الماضي والحاضر ومن هذه العادات والطقوس (عيد البربارة) الذي يوافق 4 كانون الأول وتحتفل به الطوائف المسيحية تيمناً بعطاء الأرض وأهم طقوسه قيام العائلات بصنع الحلويات وطبخ (الهريسة والقمحية).

وإحياء لذكرى حبات القمح بحسب الباحث القيم يقوم المحتفلون بإشعال كومة من الحطب أمام كل بيت وخاصة في الريف السوري ويقومون بالطواف حولها ومن الأمثلة التي تقال في عيد البربارة (بالبربارة رجع الحب ع كوارة) كناية عن انتهاء عملية زراعة الأرض وضرورة إعادة الحبوب التي لم تزرع لمخابئها.

من التقاليد الاجتماعية المحببة التي تقوم بها العائلات السورية صناعة السليقة حيث يتم سلق حبات القمح بعد تجهيز (الحطب) لإشعال المواقد وتغسل النساء حبات القمح قبل أن تضعها في القدور الكبيرة وتملأها بالماء لسلقها في حين يجتمع الأطفال والأقارب والجيران بانتظار نضوج حبات القمح ليحظوا بصحن مملوء بالسليقة يرش عليه السكر ليصبح مذاقه لذيذاً.

وتسبق عملية السليقة تنظيف سطح المنزل لفرش القمح عليه لمدة يومين أو ثلاثة ثم تجمع ويعاد تنقيتها بشكل أدق وهذا طقس اجتماعي آخر تتميز فيه البيئات السورية حيث تجتمع صبايا الحي للمساعدة في التنقية وتدور الأحاديث الجميلة المليئة بالذكريات ويضج المكان بالضحكات.

القمح والثقافة

وكانت سنبلة القمح وروحها مصدر إلهام فنانين تشكيليين سوريين الذين صوروا الطبيعة بلوحاتهم عبر مدارس فنية مختلفة عبر رسم موسم الحصاد أما بطريقة مباشرة في اللوحات التعبيرية أو رمزية كما نقلت عدسات المصورين الضوئيين فصولاً من هذا الموسم السوري الفريد وظهر أيضاً في قصص الأطفال كما تجلت حبة القمح ضمن عروض مسرحية شهدتها الخشبات السورية وآخرها العرض الذي قدم بافتتاح دورة ألعاب (جريح الوطن) الرياضية بتوقيع المخرج الكبير نجدة أنزور.

حبة القمح بروحها المعطاءة تتصدر اليوم جناح الجمهورية العربية السورية في دولة الإمارات من خلال معرض إكسبو دبي 2020 برسالة للعالم أجمع بأن سورية التي كانت خزان العالم القديم بقمحها وخيرها هي اليوم روح العالم الجديد بشعبها الذي يزرع الإبداع والجمال بوطنه وينثره علماً وعملاً في أنحاء الأرض.

رشا محفوض

 

تاريخ النشر

23.10.2021

قراءة المزيد: